عبد الهادي عباس يكتب:  متاهة في ضرائب العمرانية!

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس

زمان عندما كنتُ أستمع إلى البرنامج الصباحي للفنان فؤاد المهندس "كلمتين وبس" حين يُناقش قضايا مجتمعية يدور معظمها حول عبارة واحدة هي: "فوت علينا بُكره يا سيد"، كنتُ أعطيه انتباهي باعتباره مادة إذاعية طريفة تُبهجنا كل صباح وفقط؛ وبالمنطق نفسه كنت أتابع الكلمات الجوفاء لشخصية "عبد الروتين" في كاريكاتير الأخبار للفنانين المبدعين: أحمد رجب ومصطفى حسين؛ إذ لم أكن أتوقع أن تتواجد مثل هذه الآفات الروتينية في دولة عريقة مثل مصر لها ثقلها المؤسسي ودورها التاريخي العريض في دقة تسجيل الدواوين وسرعة إنجازها.

هذا ما كنتُ أظنه، وبعض الظن إثم، لأن الواقع ينطق بغير ذلك، ينطق بأن هناك متاهات كبيرة تسكنها الغربان وتعشش فيها العناكب ويبيض فيها الحمام لا تزال ترتع فيها عقول كثير من الموظفين؛ صحيح أنه توجد استثناءات تظهر كفنارات تهدي السفن إلى الساحل في ليالي العتمة، ولكن الغالبية سجناء لقمة العيش، محبوسون في أجساد بشر حتى انتهاء دوام العمل الكارهين له أو المُكرهين عليه، مع أنهم قد وصلوا إليه بشق الأنفس وبالوساطات والكرامات، ولا بأس أن يُعيدوا الكرَّة مع أبنائهم لتوظيفهم في المكان نفسه الذي يكرهونه، وكأنها رحلة "سيزيفية" للعذاب المستمر!

في مديرية ضرائب العمرانية يبدو الهرج غالبًا على الاطمئنان والهدوء، وتبدو المكاتب أشباحًا رابضة تعلوها تنانين مخيفة تتناقش في اللا شيء، في الطعام والشراب والحال والأحوال، تزجية لأوقات الفراغ المملة، ولا بأس أن يلتفت إليك تنين بعدما ترجوه عدة مرات أن يُجيبك عن سؤالك وكأنه ينفث في وجهك نارًا: اذهب إلى الأستاذ فلان أو الأستاذة فلانة، ثم يعود إلى حيثما كان من حديث مع التنين المجاور.

تذهب إلى الأستاذ فلان فتجده يتناول إفطاره رغم أن الساعة قد جاوزت الحادية عشرة، أو الأستاذة فلانة فلا تجدها على مكتبها، وإذا وجدتها تصرفك إلى أستاذ آخر، والآخر يصرفك إلى آخر وآخر، وهكذا حتى تجد نفسك قد تعرَّفت إلى جميع الموظفين بمن فيهم عاملو البوفيه الذين يفترشون الطرقات الضيقة لهذا الكيان الذي لا يحمل حتى لافتة تدل عليه أو تشير إلى وجوده.

حياة كاملة، وصورة للدنيا بكل زحامها وتعقيداتها، تصلح للدراسات النفسية والاجتماعية، في هذا المبنى "الهلامي" الذي زرته لأمر لا يستغرق ثواني معدودة فاحتجت إلى يومين كاملين أنا وزوجتي، وإنني أحمد الله إذ لا أمتلك عقارات ولا أطيانًا ولا سيارات لأقع تحت براثن هذه الشرذمة من الموظفين الذين يُعطلون المراكب السائرة، كما يُقال.. غير أن الحقيقة الكاملة تقتضي القول إن هناك وجوهًا ناضرة تبتسم في هدوء، تجتهد لاجتياز العقبات المصطنعة، وتعمل في "علياء" على تسيير المراكب في مسارها الصحيح حتى لا يتعطل دولاب العمل، ومن واجب المديرين البحث عن هذه النماذج المشعة وإعطائها فرصها في الترقي والإدارة لتتغير الأوضاع إلى الأفضل والأجمل؛ إن كنا حقا نسعى إلى تدعيم أركان الجمهورية الجديدة، فليست القيادة السياسية منوطة بتغيير ضمائر الناس ليقوموا بأعمالهم كما يجب، وإن كان عليها تغيير أكداس الملفات "المانيوال" إلى التحول الرقمي والإلكتروني، وهو ما تسعى إليه الدولة ولكنه بلا شك سيستغرق وقتا غير قليل ريثما يخرج أعداء التكنولوجيا إلى المعاش أو تتوافر الخامات التكنولوجية اللازمة.  
           
فارق مهم وبسيط بين الدول المتقدمة والدول التي تسعى إلى أن تكون متقدمة؛ فارق من كلمتين: احترام الوقت. موظفو الدول الكبرى ليسوا أكثر ذكاء ولا أنقى ضميرا، ولكنهم أكثر إرادة على التغيير ونشدان الكمال والسعي نحو تجويد العمل وإعطاء الأولوية لطالب الخدمة؛ وجامعو الضرائب روح الدولة وأداتها لملء الخزينة ولا أشك أن وزارة المالية تعطيهم أولوية كبيرة، ولكنها تحتاج إلى بذل مزيد من الجهد لتوفير أماكن أفضل وأرقى وأحدث، مع التأهيل المستمر.. وهذا ما نرجوه، بل هو واجب لا بد أن يحدث، إذ لا بديل عن التقدم إلى الأمام ولو بخطوة السلحفاة في وقت لا يعرف العالم غير سرعة الفهود طريقا في الحياة.